لو سعى أحد الباحثين لجمع مسائل الخلاف الفقهي بين الصحابة رضوان الله عليهم، لتحصل له من ذلك مجلداً ضخماً, مسائل كثيرة كان للسلف فيها أقوال مختلفة ورؤى متعددة في فهم النصوص الشرعية, وفي عموم طريقة السلف في التعامل مع خلافاتهم قلمّا ادعى أحدهم احتكار فهم النص الشرعي, إذ إن التربية النبوية التي نشأوا عليها، غرست فيهم معاني إعذار المخالفين والبعد عن الإطاحة بهم، وما حديث (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، إلا شاهداً على هذه التربية العظيمة.
فالصحب الكرام الذين شهدوا التنزيل وصحبوا رسول الله وكانوا أعلم الناس بلغة العرب، اختلفوا في فهم هذا الحديث النبوي ثم اختلفوا بعد ذلك في الجانب التطبيقي العملي, فرأت طائفة أن تعمل بظاهر النص النبوي، سيما والنبي عليه السلام هو المشرّع, فقالت: لا نصلي العصر حتى نصل لبني قريظة ولو خرج الوقت, ونظرت الطائفة الأخرى إلى أن النبي عليه السلام إنما قال عبارته ليستحثهم على الإسراع والمسير, أما وقد حضر وقت الصلاة، فإن الله يقول (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) فصلوا في الطريق, فأقر النبي عليه السلام الطائفتين على اجتهادهم، وإن كان الصواب لدى إحدى الطائفتين.
بل ذهب بعض السلف إلى أبعد من ذلك، فقد كان أحدهم ربما تنازل عن اجتهاده ورأيه الفقهي الذي يراه موافقاً للسنة إلى قول يراه مرجوحاً رغبة في وحدة الصف وجمع الكلمة, وهذا التنازل يقتصر في الجانب العملي لا القناعة العلمية, فالصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، كان يرى أن السنة في الحج هو قصر الصلاة في منى, ولكن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أداء الصلاة تامة, وعندما صلى عثمان بالمسلمين أربعاً أتم خلفه ابن مسعود أربعاً، وقال: (الخلاف شر).
لقد قدم الحُجاج من كل الأمصار والبلدان لأداء فريضة الحج وفيهم الأعراب والجهال ودهماء الناس, وكان انقسام الصحابة أمامهم في أعظم الفرائض العملية وهي الصلاة من شأنه أن يعكس صورة سلبية لصحابة رسول الله رضوان الله عليهم الذين كانوا هم قدوة الناس وأسوتهم .
وإذا أردنا أن نرصد واقع السلفية المعاصرة في بلاد الحرمين وفي غيرها ونقارنه بهذا المنهج السلفي الأصيل، وجدنا أن ثمة خللاً وقصوراً في تبني هذا المنهج إزاء عموم المسائل والقضايا الاجتهادية. ولئن كان النهج الذي سلكه بعض علماء الدعوة السلفية في توحيد الفتوى واستبعاد كل فتوى تخالف السائد في البلد أو (ما جرى عليه العمل)، خياراً ناجحاً، أدى إلى قدر كبير من الاستقرار في المجتمع المحلي آنذاك, فإن هذا النهج على التسليم بصحته، لم يعد بالإمكان انتهاجه لأسباب كثيرة، منها الانفجار المعلوماتي وتيسر سبل المعرفة والعلم وكثرة المفتين وغياب كبار العلماء الذين كانت تدين لهم الجماهير بالولاء.
وليس ثمة حل ناجع إلا بترسيخ هدي السلف الصالح في التعامل مع المسائل الاجتهادية, فكل قول اختلف حوله أئمة السلف من الصحابة ومروراً بأصحاب القرون المفضلة والمذاهب الأربعة، فلا مجال فيها للتسفيه أو التضليل أو التبديع أو اتهام المخالف بقلة الديانة.
إن الهجمة الشرسة التي طالت المنهج السلفي المعاصر وشيوخه ورموزه من قبل خصومه المذهبيين واللادينيين في ظل الأجواء السبتمبرية خلال العقد الحالي، لا ينبغي أن تشكّل حجاباً عن التقويم والمراجعة, ولا ينبغي أن نغالط الحقائق الواضحة، فنزعم أن السلفية المعاصرة لم تضق يوماً بالخلاف السائغ في مسائل الاجتهاد, فالمنصف يعلم جيداً أنه لو تجرأ أحد المشايخ عبر قناة فضائية مثلاً.. وقال بجواز أو كراهة الإسبال بلا خيلاء (وهو قول جمهور الفقهاء), أو بجواز زيارة النساء للقبور, أو قال بجواز أخذ ما زاد على القبضة من اللحية أو الصبغ بالسواد أو بغيرها من المسائل المخالفة للسائد في العرف السلفي العام، لأدى هذا الأمر إلى تطاول الشباب على هذا العالم، واتهامه من قبل بعض المشايخ وطلبة العلم بالتمييع أو التساهل أو ترك إتباع الدليل.
والشواهد على ذلك كثيرة، ابتداء من موقف بعض العلماء من القول بجواز الرمي قبل الزوال في الحج، وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة, وقد رجع إليه بعض العلماء المعاصرين حالياً, وانتهاء بمصادرة كتاب الشيخ دبيان الدبيان، الذي ذهب فيه إلى قول جماهير العلماء في مسألة اللحية بجواز الأخذ بما زاد عن القبضة, ويعلم الله أني لم أذكر هذه الشواهد إلا مضطراً، لأن بعض الغيورين في ظل هجمات الخصوم من ليبراليين وغيرهم، يبالغون في تبرير كل مواقفنا العلمية والدعوية.
ربما اعتقد بعض الإخوة أن ذكر بعض الأمثلة السابقة، يشكل بُعداً تربوياً سلبياً على شباب الصحوة وعلى عموم المجتمع, فأقول هذا صحيح، وأنا ذكرته للحاجة الماسة، لإثبات أن هذا الإشكال موجود فعلاً, ولكن حبذا لو اتفقنا على حاجتنا في تقديم خطاب سلفي يبعث منهج السلف الصالح في الانتصار لرأينا الفقهي الاجتهادي، والإدلاء بحجتنا وبراهيننا دون تضليل أو إقصاء، ما دام المخالف لم يخرج عن إجماع السلف في فهم النصوص الشرعية.
لا زالت ذاكرتي الكليلة تتذكر بأسى وألم شديدين تلك المعارك الهوجاء التي نشبت بين شباب الصحوة قبيل تدشين قناة المجد الفضائية، وهو الأمر الذي أدى إلى صدور كتاب قدمّه عدد من خيار المشايخ وطلبة العلم يحذرون فيه من قناة المجد وخطورتها على المتدينين, ولم تكن المعضلة في تبني مؤلف الكتاب أو من قدمّ له من المشايخ للقول الفقهي القائل بتحريم التصوير بأنواعه، فهذا قول فقهي معتبر له وجاهته واحترامه, ولكن المشكلة كانت في تبني هذا الرأي الفقهي الاجتهادي بشكل حدي وقطعي في نازلة من النوازل التي اختلف حولها الفقهاء المعاصرون والأكثرون على تجويزها, ثم القفز لاتهام الآخرين القائلين بالجواز أو المشاركين فيها بالزيغ والانحراف والانفلات, مما أثار حالة من الاصطفافات والمعارك وحالة ذهول واضطراب لدى الشباب إزاء هذا القصف والقصف المضاد, وقد انجلى غبار تلك المعركة ولكن بقيت النفوس مشحونة ومختلفة ومتنازعة تترقب الإطاحة بخصومها عند أقرب فرصة سانحة.
إن حركة إسلامية إصلاحية تستهدف إصلاح المجتمعات, وإنقاذ الأمة من حالة التردي التي تعيشه على كافة الأصعدة، لا يمكن أن تواصل السير بشكل متماسك البنيان وواثق الخطى في وسط ظروف ومتغيرات متلاحقة ونوازل متتابعة بلا منهج سلفي رشيد يخلق فضاء رحبا للاختلاف السائغ بين أنصاره ورموزهً.
(